المرأة التي لم تنكسر
مرت سنوات قليلة على زواجهما، وعصفت الرياح الاقتصادية بالبلاد، فاضطر مالك للسفر إلى بلد بعيد لطلب الرزق، لكن قبل أن يشدّ رحاله، قال في نفسه:
> "لا يمكن أن أترك هالة وحدها.. إنها ضعيفة، وغريبة في هذه البلدة."
فذهب إلى أخيه غير الشقيق، سهيل، وطلب منه أن يسكن بالقرب من زوجته، ويحسن إليها، ويرعى شأنها في غيابه.
قال مالك:
ــ "أستودعك زوجتي يا سهيل، فلا تجعلها تحتاج أحداً، وكن لها كالأخ."
أومأ سهيل برأسه دون أن ينطق، وعيناه تحملان نظرة خفية ماكرة.
> "نسي مالك قول نبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت."
مرت الأيام، وبدأ سهيل يكثر من زيارة بيت هالة، يتحجج بالحاجة لإحضار شيء أو الاطمئنان، حتى جاءها ذات مساء، وقال بصوت خفيض:
ــ "هالة... لا تخدعي نفسك. أنتِ امرأة فاتنة، ولن يراكِ أحد إن اقتربتُ منكِ... لن يعلم زوجك."
نظرت إليه بذهول ورفعت يدها بعنف:
ــ "اتقِ الله يا سهيل! أنا زوجة أخيك، ولن ألوث شرفي بكلماتك المسمومة!"
زمّ شفتيه غيظاً وقال مهدداً:
ــ "إذن... ستندمين. سأفضحك أمام الناس... سأقلب الصورة، وأجعلك أنتِ الخائنة."
لم تهتز، بل قالت بثبات:
ــ "قل ما شئت. أنا معي ربّي."
عاد مالك بعد شهور طويلة، وهرع سهيل إليه قائلاً:
ــ "أخي، زوجتك خانتك! راودتني عن نفسي، لكنها امرأة خبيثة."
تغير وجه مالك، وامتلأت عينيه صدمة وغضباً. لم يمنح هالة فرصة للكلام، بل طلقها فوراً!
بكت هالة كثيراً، ولم تجد بيتاً تأوي إليه، فخرجت هائمة على وجهها، حتى طرقت باب بيت عابدٍ يُدعى الشيخ نُعيم، يعيش مع ابنه الوحيد.
قالت له:
ــ "يا شيخ، طُلِّقت ظلماً، لا مأوى لي ولا طعام. هل لي عندك عمل؟"
نظر إليها بتأمل، ثم قال:
ــ "تعالي، أعلم من وجهك أنكِ صادقة. سترعين ابني الصغير، وسأعطيك أجراً."
مكثت هالة في المنزل شهوراً، ترعى الطفل بكل حنان، حتى أحبها الطفل كأمه.
وذات يوم خرج الشيخ نُعيم إلى السوق، وتركها في المنزل، فجاء خادم البيت، واسمه عاصم، وطرق الباب على غرفتها، قائلاً:
ــ "يا هالة... طال غياب الشيخ، ولن يعلم أحد ما سأفعل."
فزعت وقالت:
ــ "عاصم! اتقِ الله، نحن في بيت طاعة وعبادة!"
ضحك باستهزاء:
ــ "ألن ترضخي؟! إذن، سترين ما أنا فاعل."
وفي جنح الظلام، قتل الطفل، وألقى بجسده في البئر خلف المنزل.
عاد الشيخ، فهرع إليه عاصم يصرخ:
ــ "هالة! قتلت ابنك أيها الشيخ! وجدته جثة هامدة!"
نظر الشيخ إلى الجثة، ثم إلى هالة، وقال بكلمات موجعة:
ــ "إنا لله وإنا إليه راجعون... لا أدري إن كنتِ فعلتِ، لكنني سأحتسبكِ عند الله."
وأعطاها دينارين، وقال:
ــ "اخرجي من بيتي، وكفى."
خرجت هالة باكية، كسيرة القلب، تمشي بلا هدف. وفي السوق رأت رجلاً يُجلد وسط الناس. اقتربت وسألت أحدهم:
ــ "ما شأنه؟"
قال رجل:
ــ "عليه دين، وإن لم يسدده، أصبح عبداً!"
سألت:
ــ "كم دينه؟"
ــ "ديناران."
تذكّرت الدينارين في جيبها، وقالت:
ــ "سأدفع عنه."
اندهش الرجل، ونظر إليها بامتنان، ثم قال:
ــ "من أنتِ يا طاهرة القلب؟"
فحكت له القصة كاملة. نظر إليها بعينين دامعتين:
ــ "اسمحي لي أن أرافقكِ... نعمل معاً ونقتسم الربح."
وافقت، وفي اليوم التالي قال لها:
ــ "فلنركب البحر، نترك هذا المكان الكئيب."
ركبت السفينة، ثم فوجئت بالبحّارة يحيطون بها. اقترب منها ربان السفينة وقال:
ــ "أنتِ جاريتي الآن... اشتريتكِ من رفيقك."
شهقت:
ــ "ماذا؟! لقد أنقذتُ حياته!"
ضحك الربان:
ــ "الطيبة لا تُطعمكِ، والآن... أطيعي."
فقالت بصرامة:
ــ "لن أبيع ديني، وإن متّ!"
وما إن همّ أحدهم بلمسها، حتى هبّت عاصفة هوجاء، وغرقت السفينة بأكملها، ولم ينجُ سوى هالة، إذ تمسّكت بلوح خشبي، وظلت تطفو في البحر.
كان حاكم المدينة، الأمير داوود، يتنزه على الشاطئ حين رأى المشهد، فأمر جنوده بإنقاذها. وعندما أفاقت، قصّت عليه قصتها من البداية.
أُعجب الأمير بها، بعقلها وصبرها، فتزوجها، وجعلها مستشارته، ثم ولاّها شؤون الحكم بعد مرضه، وحين وافته المنية، أجمعت الأمة على أن لا أحد يستحق الحكم سواها.
فقالت لهم:
ــ "لي شرط واحد... أريد أن أقابل رجالاً من ماضيّ."
جلست على عرشها في الساحة، وأمرت بعرض الرجال أمامها.
رأت مالك، زوجها السابق، فقالت:
ــ "تنحّ جانباً."
ثم رأت سهيل، أخاه، وقالت:
ــ "قف بجانبه."
ثم الشيخ نُعيم، ثم عاصم، ثم الرجل الذي خانها في البحر.
قالت:
ــ "يا مالك، لقد ظلمتني، لكني سامحتك. أما أخوك، فسوف يُجلد ثمانين جلدة بتهمة القذف."
ثم التفتت إلى الشيخ:
ــ "سامحتك يا شيخ، لكن خادمك قتل روحاً بريئة، وسيُعدم قصاصاً."
ثم للرجل الخبيث:
ــ "بعت من أنقذك، وستُسجن عقاباً لك."
ثم نظرت إلى الجمع وقالت:
> "أيها الناس، والله، ما كان صبري ليرفعني، لولا أن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً.
تعليقات
إرسال تعليق